أود هنا التعليق على مقالة صدرت في جدلية للسيد/أحمد أبوزيد لماذا لم يثر الصعيد؟ محاولة أولية للفهم ودعوة للنقاش والتي يفند فيها أسباب عدم ثورة الصعيد ويعيدها إلى عوامل متعددة ثقافية واجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية. تتكون المقالة الحالية من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول يتناول فهم الثورة المصرية (ماهيتها وحدودها المكانية والزمنية)، الجزء الثاني يناقش مجموعة من الأفكار والإجابات التي يقدمها الكاتب عن أسباب عدم مشاركة الصعيد في الثورة، أما الجزء الثالث فيورد بعض الأمثلة عبر مجموعة من الملاحظات واليوميات التي كتبتها أثناء زيارات ميدانية أختصرها هنا لتناسب غرض النقاش.
ما الثورة المصرية ؟
القواعد المبدأية التي يرسيها الكاتب قبل شروعه في التحليل بشكل مباشر هي، أولاً أن الصعيد لم يثر، وثانياً أن الثورة كانت حضرية. يقول: "أعتقد أن ثورة يناير كانت بالأساس ثورة المركز (ثورة القاهرة الثالثة)". يبدو لي أن إحدى المشكلات الأساسية في الورقة هي قصر الثورة أو الحالة الثورية على لحظة الـ 18 يوماً، وهي تعد لحظة إذا نظرنا إلى الثورة على مدى زماني واسع على امتداد الخط الفاصل بين يناير 1977 ثم أكتوبر 1997 وصولاً إلى أبريل 2006 وصولاً إلى يناير 2011 ثم يونيو 2013. كل هذه اللحظات التي تتفاوت في حجمها وعواملها المؤثرة تعتبر بالنسبة لي وبالنسبة لآخرين نقاطاً محورية في مسار طويل لا يجب أن يُفْصل عن سياقه. فإذا كانت لحظة يناير اتسمت بالوجه الحضري على الأقل من حيث الحيز المكاني فهذا لا يعني أن الثورة (والتي كما أشرت أكبر وأعمق من لحظة يناير) حضرية. وحتى خلال لحظة يناير يجب أن نميز بين الحضر كحيز مكاني احتضن حركة شعبية تتجاوز المسألة الحضرية أو كون الثورة حضرية في تركيبتها وبنيتها. شيء آخر يجب أن نحدد طبيعة توصيفنا لما حدث بعد التنحي مباشرة: هل هو امتداد للثورة أم ثورات أخرى؟ إن الفرضية المسيطرة على ذهنية العديد من الكتاب الحضريين (القاهريين تحديداً) بأن الـ 18 يوماً هي الثورة، بالإضافة إلى المفهوم الإجرائي عن ماهية الثورة وأشكال الفعل الثوري وخصائص الكائن الثوري التي تشكلت عبر تجربة الـ18 يوماً، تشكل عائقاً أمام قراءة وفهم الأحداث التي شهدتها مصر قبل 25 يناير 2011 وبعده. يشير جلبير أشقر في كتاب "الشعب يريد" أن الانتفاضات العربية، التي بدأت في 2011 ليست سوى أول الغيث بسبب استمرار الفقر واللامساواة وعدم الاستقرار. إنها سيرورة طويلة الأمد. يؤكد سمير أمين في كتابه "الثورة المصرية" على هذه الفكرة لكنه يربطها بالحراك على مستوى الجنوب والذي بدأ منذ حركات التحرر في خمسينيات القرن الماضي. إن توصيف أمين للحالة الحالية على أنها "لحظة ثورية" وقراءة أشقر على أنها سيرورة طويلة الأمد تفتحان المجال لقراءة أكثر تحرراً من قيد لحظة يناير. تحتاج القراءة إذن إلى انفتاح زماني لما قبل وما بعد لحظة ال 18 يوماً ليشتمل، على الأقل، الفترة الممتدة من 1997 إلى 2013 كما أنه يحتاج إلى انفتاح معرفي في توصيف ماهية الثورة وطبيعة الحراك الثوري يشتمل أشكال الاحتجاج الخاصة ب 18يوماً ولا يقتصر عليها. هذا الانفتاح يجعل التساؤل بدلاً من "لماذا لم يثر الصعيد؟" حول "هل ثار الصعيد أم لا ولماذا؟" ما الثورة؟ متى بدأت الثورة؟ ومتى انتهت؟ هي أسئلة محورية تسبق سؤال لماذا لم يشارك الصعيد في الثورة؟
السؤال هنا ليس سؤالاً حول المفهوم المعرفي أو المجرد للثورة ولكن عن ماهية هذا المفهوم في ذهنية "الثوريين المحترفين" (أستخدم هذا المفهوم وفقاً لتعريف حنا آرنت له في كتابها عن الثورة حيث تقول " الثوري المحترف هو ذلك العضو من الطبقات الميسورة المتمتعة بالرفاه والفراغ، الذي يقضي وقته في التفكير والتنظير والمساجلة حول موضوع واحد هو الثورة". ومن هذه الزاوية أناقش مفاهيم استخدمها الكاتب مثل مفهوم "ثورة القاهرة الثالثة". إن النظر للثورة على أنها ثورة قاهرية أو ثورة لحظية، أي منفصلة الجذور (فيما عدا جذورها في حركة كفاية) ليس وليد الصدفة ولكنه وليد عملية تشييد اجتماعي تهدف في النهاية إلى تحديد المسار الذي تسلكه الثورة، لذلك يمكن اعتبار استبعاد الصعيد من الثورة لم يكن لأنه لم يشارك بفعل معين قبل يناير أو بعده ولكنه لم يشارك بفعل معين داخل المكان والزمان الذي حددته العاصمة، ليس ذلك فقط ولكنه حين شارك استخدم أساليب لا تُرى من قبل المركز "الثوري" على أنها أساليب ثورية، وبالتالي تم تجاهل كل ما يحدث من حراك وفعاليات سلمية أو عنيفة واعتبرت غير موجودة.
إجابات كاملة لأنصاف أسئلة
سوف أناقش هنا بعض التعميمات والإجابات التي تطلقها المقالة عن خصائص الصعيد عبر إعادة طرح الإشكالية واستكمال الأسئلة لتناول الصعيد وباقي الأقاليم حتي يتسنّى لنا فهم المسألة بشكل أشمل.
أولاً: عن العنف
لا أختلف مع الكاتب في إشارته إلى سيطرة الدولة على الصعيد عن طريق القمع ولكني أرى أن هذا الشكل لم يكن مقتصراً على الصعيد فقط ولكنه اشتمل على جميع أنحاء الجمهورية وإن اتخذ أشكالاً متنوعة. وبدون العودة إلى التاريخ البعيد نسبياً (العهد المملوكي) فإن التاريخ القريب المرتبط بنمو الجماعات الجهادية في مصر بشكل عام وفي الصعيد بشكل خاص كان له دور كبير في السيطرة على الصعيد عبر القمع المفرط ومهاجمة المنازل واحتجاز الزوجات والأولاد وحرق أو تدمير المحاصيل. حدث هذا بالصعيد والدلتا لكن مجموعة الجهاد الإسلامي تنظيم الصعيد كانت الأقوى لذلك كان العنف أكثر تركزاً بالصعيد. اختلاف عنف الدولة في الريف والأقاليم عنه في الحضر والمدن الكبرى يرجع إلى اختلافات اجتماعية. لقد حاولت الدولة في حالات الأقاليم إحداث حالة اجتماعية من الرعب وتدمير "الكائن الاجتماعي" عبر المداهمات والاستعراضات المسرحية. أما في المدينة فكان عنف الدولة يتركز على تدمير الكائن الفرد (مثلاً اغتصاب الذكور بأقسام الشرطة وكذلك التعذيب المفرط). لا أنكر احتمالية حدوث تعذيب أو اغتصاب للريفيين ولكني أتصور أن إعلان شيء كهذا وتأثيره الاجتماعي أدى إلى جعله مسألة سرية. السلطة تمارس العنف لا لكي يظل سرياً ومقتصراً على مقراتها ولكن لينتشر ليخلق منها أسطورة مرعبة. وإذا كان أهل الأقاليم لا يروون حكايات تعذيبهم فإن وظيفه التعذيب الاجتماعية تتلاشى وبالتالي تلجأ السلطة إلى العرض المسرحي عبر الاقتحام وخطف النساء وإحراق المزروعات لإنتاج الرعب في الأقاليم بطريقة مختلفة عن إنتاجه في المدينة. هذا قد يفسر جزئيا اختلاف استجابات الصعيد أو الأقاليم عموماً لحالة خالد سعيد.
ثانيا: عن تحديث المدن والتمدن "الزائف" للريف
وكان هناك تريف المدن وتمدن القرى (الكاذب): يبدو أن الباحث لم يستخدم نفس التدقيق في دراسته للتحديث أو التنوير الزائف الذي شاب أيضا تحول المدينة المصرية.
مسألة تريف المدينة وتمدن الريف مسألة معقدة جداً وتحتاج مجهوداً أكبر من الكاتب لإقناعنا بأن "تمدن القرية كان كاذباً" في حين أن تحديث العاصمة كان ناجزاً وفاعلاً. كما أن إسقاط تريف المدينة وأثر الريفيين أو أشباه الريفيين (تخوم المدينة) وعلاقتهم بالثورة تثير مزيداً من التساؤلات حول طبيعة الثورة المصرية ناهيك عن النقاش حول مشروع التحديث أو التنوير. لا أتصور نفسي مؤهلاً للحديث عن الحداثة ومشروع التنوير المصري لكني فقط أطلب من الكاتب أن يطبق ذات المعايير على العاصمة كالحديث مثلاً عن أن التكنولوجيا ليست دليلاً على التحديث، ولماذا الحداثة "كاذبة" في الإقليم و "صادقة" في العاصمة؟ أعتقد أن استعلاء حضرياً (رغم أصول الكاتب الصعيدية) يبرز في الكثير من العبارات التي يطلقها دون تفسير أو نقاش يجعلنا نقتنع بتلك الأفكار كما أن إضافة المرادف الإنجليزي بجوار تلك المصطلحات لا يعني في الحقيقة أي شيء.
لنعود إلى مسألة الترييف الغائبة من التحليل ونضع هنا ملاحظة مهمة مرتبط بالـ 18 يوماً وهي أن أكبر المسيرات خرجت من المناطق "الأكثر تريفاً" الجيزة وإمبابة وبولاق الدكرور وفيصل والهرم. هذه الملاحظة التي يتم تجاهلها عن قصد لإضفاء الطابع الحضري الحداثي على حشود قادمة في معظمها من مناطق تخوم حضرية وهامش القاهرة الكبرى دون أن يستدعي ذلك التساؤل حول طبيعة الحشود. ويبدو لي أن مراجعات عن الطابع الحداثي المرتبط بالطبقة الوسطى للثورة قد ظهر بعد "الانتكاسة الثورية" حيث تراجع عمرو حمزاوي عن نظرته لطبيعة الثورة المصرية "كثورة ديموقراطية معبرة عن الطبقة الوسطى الحية" إلى "ثورة الهامش الذي لم يستطع الصمود أمام أزمته الاقتصادية"، يقول حمزاوي: "رتب انكماش الطبقة الوسطى، اضطلاع الشرائح محدودة الدخل والفقراء بمسئولية المطالبة بالديمقراطية فى يناير ٢٠١١ إلا أنهم سرعان ما تنكروا لها على وقع تدهور الأوضاع المعيشية وانهيار قدرتهم على تحمل ضغوط غياب الأمن والعمل والخدمات الأساسية" (الشروق، الأحد 17 نوفمبر 2013). إن تمركز النظر والدراسات لمطلقي البيانات لا لمالئي الميادين هو بعد آخر من أبعاد قصور ماهية الثورة لدى قطاع مهم من الكتاب في هذا الشأن.
ثالثاً: عن قلق الأهالي
إن ما يقوله الكاتب عن موقف أسر أهل الصعيد تجاه نزول أبنائهم في المظاهرات ينطبق على القاهرة. دعوة الأمهات لأبنائهنّ بعدم المشاركة يمكن أن تقارنها بنفس الدعوات لأمهات الحضريين بعدم المشاركة والكذب المستمر على الأهالي (خاصة الأم) الذي سجلته آلاف وليس عشرات الشهادات التي أدلى بها المواطنون في الفضاءات الإلكترونية (مثلاً: الثوار لا يخافون الموت ولكنهم يخافون أمهاتهم) . لماذا تبدو دعوة الأم الحضرية لابنها أو ابنتها بعدم الخروج "حرصاً علي ولدها" في حين ينظر إلى دعوة الأم الريفية لولدها على أنه فعل محافظ. إن نفس الفعل يتم إضفاء صبغة ثقافية عليه لمجرد اختلاف فاعليه ليس أكثر.
رابعاً: عن الاقتصاد والتركيبة الطبقية
الحديث عن الشق الاقتصادي غاب عنه حقيقة أن شباب الصعيد مهاجرون سواء للمدن الكبرى أو المناطق السياحية أو دول الخارج، وهذا قد يطرح تساؤلاً حول من كانوا بميدان التحرير؟ بمعنى هل كان هؤلاء الريفيون وسط الجموع التي اشتركت في لحظة 25 يناير؟ هنا سوف أعطي مثالاً ميدانياً يشير إلى أن الكثير من العمال "الفواعلية" قد لجأوا للميدان كملاذ لهم بعد توقف أعمال البناء وتوقف القطارات (حكى لي شاب من أسيوط أنهم كانوا يقضون الليل علي تبة الرملة التي كانت بجوار الصينية) لا توجد أي تفاصيل حول دور هؤلاء في الأحداث لكن الشواهد تؤكد وجودهم.
كما أن صعوبة التحليل الطبقي بسبب تنوع سبل العيش لسكان الصعيد ليست مقتصرة فقط عليهم فذات الشيء ينطبق على الدلتا، وبشكل عام هناك نقاشات حول كيفية دراسة التراتبية الاجتماعية في الجنوب ليس من منطلق الخصوصية الثقافية ولكن من منطلق طبيعة البنى الاجتماعية وطريقة تطورها أو تشوهها عبر مشروعات التحديث والإدماج المتعثرة في النظام العالمي.
خامساً: عن الوعي
يقول الكاتب، "إن هناك أناساً لا يدركون أو لا يعرفون كيف يقرأون الفاتحة كيف تتوقع منهم أن يشاركوا في ثورة، التي تعني وسط ما تعنيه وصول الوعي الإنساني الفردي والجمعي لذروة توقده وحضوره، بصوره تدفعه لتغيير الأوضاع الجائرة المحيطة به". هل كانت الثورة المصرية (أو ال 18 يوماً) فعلياً ذروة توقد وحضور الوعي الجمعي والفردي؟ هل كان المتواجدون جميعاً في تلك الفترة وبكل الميادين قد وصلوا إلى هذه "الذروة"؟ كيف يفسر لنا الكاتب التقلبات المتتالية في المزاج العام بين المتعلمين والتأييد الجارف لقطاع كبير من الحضريين اليوم للمشير السيسي والعودة إلى الدكتاتورية؟ أين ذهب هذا الوعي الإنساني الفردي والجمعي؟ أخيراً ما العلاقة بين الوعي والأمية؟ هل الوعي بضرورة تغيير الأوضاع الجائرة يتطلب معرفة قراءة الفاتحة؟
يوميات وملاحظات ميدانية
في هذا الجزء سوف أعرض لملاحظات ميدانية شخصية وأخرى قرأتها في تقارير مراكز حقوقية ودراسات بحثية بالإضافة لمتابعتي عن بعد لبعض نشاطات مجموعات ونشاطات بمدن وقرى الريف "حضرية وريفية" بصعيد مصر لإيضاح تنوع الحراك الاجتماعي السابق واللاحق والموازي للـ 18 يوماً.
هنا ميدان التحرير (03-03-2011): أولاً النظرة السطحية لما حدث خلال الـ 18 يوماً تشير إلى أنها حركة اجتماعية حضرية ولكن إذا قمنا بجولة داخل مخيمات المعتصمين سوف نلاحظ تواجد لمختلف الأقاليم المصرية من الدلتا والصعيد وحتى أسوان. في اليوم الذي نزلت فيه إلى الميدان سألني أحد التائهين هل تعرف أين هي خيمة أسوان؟ قلت له: وهل هناك خيمة لأسوان؟ قال: نعم وقد كنت معهم من يوم 28 حتى يوم التنحي وبعد ذلك رحلت للبلد (النوبة) وعدت اليوم. وأنا أستكمل جولتي وجدت خيمة مكتوب عليها "أسرة شهيد ديروط"، بعدها التقيت صديقي حاتم وكان يجلس بخيمة بها مجموعة من سوهاج والبحيرة.
من دهميت ( التهجير – نصر النوبة) إلى أسوان المدينة 7/3/2011: في مساء يوم وصولي إلى دهميت تحركت في القرية لأداء الواجبات الاجتماعية. السكون هو سيد الموقف، قلت لنفسي يبدو أن الثورة لم تمر من هنا. ولكن في قلب القرية أمام المنازل وجدت مجموعات تتحدث عن وثائق أمن الدولة. وفي المحال التجارية وحتى في الصيدلية أيضاً كانت المناقشات مستمرة. في هذه الأثناء كانت هناك ندوة شعرية بمركز الشباب للشعر النوبي كانت الدولة قد منعت القيام بنشاط مماثل قبل عامين نظراً لأنهم دعوا ناشطين سياسيين نوبيين. التقيت بالمنظمين والمشاركين عند مفترق طرق. عرفت أن المعلمين بالقرية أسسوا رابطة المعلمين بدهميت. في اليوم التالي ذهبت إلى أسوان المدينة وعلمت أن هناك لجنة من "شباب بيحب أسوان" تدير عمليات النظافة والوعي وكذلك دعم اتخاذ القرار عبر حملات أهلية واجتماعات دورية مع الجهاز التنفيذي للمحافظة والمحافظ.
حول بحيرة ناصر (اعتصام البشاير) 8 مارس 2011: ابتداء من تاريخ 4 سبتمبر 2011 اعتصم 64 شاباً نوبياً يطالبون بأرض وسكن بقرية البشائر الواقعة علي ضفاف بحيرة ناصر. تتكون المجموعة من أكثر من 12 قرية نوبية من قرى التهجير بمركز ناصر، التي تبعد حوالي 250 كيلو متراً عن موقع الاعتصام بجوار البحيرة. بدا هذا الاعتصام للمطالبة بأرض زراعية ومنازل قبل الـ 18 يوماً واستمر بعدها. وقد زرت المعتصمين بشهر مارس 2011. يبرر الشباب حراكهم وطلبهم لهذه المنازل بأن الاتفاقية التي أجراها العون الغذائي مع الحكومة المصرية تقوم على أساس توطين النوبيين والقبائل التي كانت متواجدة في هذه المناطق أو امتدادها الجغرافي. وقد عرضت هذه الاتفاقية في مؤتمر حق السكن بعام 2007 وأصبحت متاحة بالمواقع والمنتديات النوبية.
احتلال أراضي بوادي النقرة- كوم امبو: في هذه الأثناء أيضاً احتل فلاحون من نصر النوبة وكوم امبو أراضي بوادي النقرة كان يمتلكها مستثمرون ومسؤولون قاهريون وقد حدثت صدامات مسلحة لكن للأسف لم أتمكن من تسجيل التفاصيل فالأخبار وصلتني وأنا بالقرية ولم ألتق أحداً من المشاركين في الحدث.
مدرسون ومعاونو هيئة تدريس منتفضون، جامعة جنوب الوادي (أسوان) مارس 2011: حضرت اجتماعاً عاصفاً بنادي أعضاء هيئة التدريس بأسوان على كورنيش النيل. تواجدت في حدود الساعة الثامنة ونصف وكانت القاعة ممتلئة بحوالى 120 عضو هيئة تدريس ومعاونيهم. من البداية يلاحظ أن هناك معسكراً محيطاً بالسيد النائب يجلس حوله في مقدمة الصفوف ويتكتل المعيدون والمدرسون المساعدون والمدرسون في نهاية القاعة. تحدثت إحدى المعيدات وقالت إنه كلما تحدث معيد يتم اسكاته وتحدثت عن التمييز ضدهم واستبعادهم من كل القرارات. وهنا اتخذ رئيس نادي هيئة تدريس قراراً بأن تتم المساواة بين المعيد والأستاذ ولهم جميعاً صوت في انتخابات النادي والترشح لمجلس إدارة الناي قائلاً "لا فرق بين المعيد والمدرس المساعد والأستاذ. كلنا واحد" ... طلب أحد المعيدين الكلام ليعلن بيان المعاونين والذي كان دقيقاً يحوي نقاطاً تتناول حق المعيد في الانتخاب وفى اختيار المشرف على رسالته. وفى نهاية بيان المعاونين تقرر إجراء انتخابات بعد إخطار ثلاث جهات: رئيس الجامعة، وزير التعليم والحاكم العسكري بأسوان. وأعطوا مهلة ثلاثة ايام لإتمام ذلك وإلا اضطروا إلى فرض واقع انتخابي. الجدير بالذكر أنه في داخل القاعة استجاب أحد عمداء الكليات وقرر إجراء انتخابات بكليته وفقاً للقواعد التى اقترحها الشباب. كان الاجتماع ناجحاً وقد فرض شباب الباحثين موقفهم بمساندة أساتذة رائعين وكان منظر معسكر النائب هزيلاً.... في الوقت الذي كان طلبة إعلام القاهرة معتصمين فيه لمحاولة تغيير عميد كليتهم استطاع أعضاء هيئة التدريس بهندسة أسوان أن يجبروا العميد على إجراء انتخابات حرة لاختيار عميد جديد قبل إقرار قانون من المجلس الأعلى للجامعات وكانت هذه أول واقعة انتخاب لعميد كلية في مصر بعد رحيل مبارك.
نزلة سالمان (أسيوط خط الغروب) مارس 2011: في حلقة نقاشية مع شباب من القرية قال لي أحدهم: "ما يحدث في القاهرة يهم أهل القاهرة. نحن مشغولون حالياً بالشأن الليبي". على مدى ثلاثين دقيقة حاول الشباب إقناعي بأنهم لا يعتبرون الثورة الدائرة بالقاهرة تعني لهم شيئاً، لكن فجأة بدأوا يتحدثون عن الرابطة التي أسسوها منذ أسبوع لمحاولة حل المشكلة القبلية والتعصب بالقرية، الشباب الذين التقيتهم من عائلات مختلفة ومستوى تعليمي واجتماعي مختلف. فهم ينتمون إلى قبائل مختلفة تخضع العلاقة بينهم لتراتبية طبقية يحاول الشباب تجاوزها، ولذلك قرروا اتخاذ قرارهم بتأسيس الرابطة، التي ليست الأولى بالمنطقة، فثمة قرى مجاورة قام شبابها وبعض كبارها بتأسيس ذات الروابط وتسجيلها والبدء بالاجتماعات. أود أن أشير أن نزلة سالمان شمال غرب أسيوط وهي قرية داخلية لا تقع بالقرب من الطريق الرئيسي.
عالم التكنولوجيا الصعيدية - مجموعة صعيدي جيكس: عن علاقة شباب الصعيد بالتكنولوجيا وكون التحديث زائفاً ودور التكنولوجيا هامشياً أعرض هذه المبادرة (صعيدي جيكس) وهي مبادرة شبابية مصرية لـرواد الأعمال و التقنيين بصعيد مصر تعمل في محافظات ( أسوان - الأقصر - قنا - سوهاج - أسيوط - المنيا - بني سويف - الفيوم - الوادي الجديد). تم إنشاؤها عام 2011 من مجموعة شباب الصعيد تهدف إلى تنظيم وتوزيع جهود الشباب المصري لإقامة مجتمع جديد لرواد الأعمال من التقنين يهدف إلى نهضة ورقي الصعيد. عقدت المجموعة ورش عمل وندوات في المجال التقني بمحافظات الصعيد منذ عام 2011، وقامت بالتشبيك بين المبرمجين في المحافظات المختلة للصعيد وتأهيلهم فنياً وتبادل الخبرات بينهم. (تجدر الإشارة إلى أن لصفحتهم على الفيس بوك أكثر من 70 ألف شخص مشارك، المعلومات من موقع المجموعة: http://ar.s3geeks.com/).
الصراع حول الأرض الزراعية: في أسوان وقنا والفيوم وبني سويف: يشير مركز الأرض في تقريره عن الحركات الاجتماعية بالتالي: " وفي مركز ناصر ببني سويف قام الفلاحون في 8 قرى بالتظاهر وقام آخرون باقتحام مبنى الجمعية الزراعية بقرية الشناوية وتحطيم الأثاث ومكتب مدير الجمعية بسبب التلاعب في حصص الأسمدة واكتشاف حالات كثيرة من المجاملات والمحسوبيات لأصحاب الحيازات الكبيرة على حساب صغار المزارعية". كما أن ياسمين معتز تشير إلى تجمهر "حوالى 100 فلاح من الفيوم أمام مجلس الوزراء اعتراضاً على قانون المالك والمستأجر". وفي كوم أمبو عام 2011 قام المزارعون بطرد المستثمرين الغرباء من أراضي بوادي النقرة وقامو بزراعتها، حدث ذلك أيضاً في الفيوم ولكن الفلاحين استعادوا الأراضي التي انتزعت منهم عبر قانون المالك والمستأجر رقم 62 لسنة 1997 الذي تسبب في انتفاضة ريفية منسية استمرت تبعاتها حتى عام 2000 واستعادت نشاطها بعد يناير 2011. كما أن صدامات بين الفلاحين ووزارة الري وأحد المستثمرين بجزية الدوم باوتشت أجبرت المستثمر الذي استأجر الأرض التي يزرعونها من وزارة الري علي ترك الارض وحدث الكثير من الصراعات المحدودة في القرى المصرية والتي تأثرت بلا شك بانفتاح المجال العام.
خاتمة
يبدو لي أن الخلل المبدئي الذي وقع فيه السيد أبو زيد هو الانطلاق من قاعدة أن الصعيد لم يشارك وبالتالي بدت الإشارات التالية لوجود بعض المشاركات في الصعيد مثيرة للالتباس، كما أن التحليلات حول بنية الصعيد شابها تعميم غير دقيق بالإضافة إلى إعادة الإنتاج لصور نمطية يتم تداولها رغم نقد الكاتب للصور النمطية وهذا التباس آخر. إذا كانت الثورة في نظر الكاتب مركزية وأن الثورات في الأطراف مكتوب لها الفشل (كما يضرب مثالي سوريا وليبيا) فالسؤال ليس لماذا لم يشارك الصعيد في الثورة ولكن لماذا يشارك الصعيد في ثورة "حضرية وقاهرية"؟ وهذا يجعلنا (إذا سلمنا بوجهة نظر الكاتب) نرى موقف الصعيد من "عدم المشاركة" في هذه الحركة القاهرية فعلاً تقدمياً لإدراكه أنها لا تعني له شيئاً. وبالتالي لم يستنفذ جهوده في فعل لا يتعلق به.
رغم أن الثورة كعملية تراكمية في طور الإنجاز تتجاوز لحظة الـ 18 يوماً ولا تلغيها إلا أن ملامح عديدة تؤكد أن حشد يناير لم يكن حشداً حضرياً تماماً. ولم يكن الاعتصام اعتصاماً حضرياً أيضاً، وبالنسبة لي كان الاعتصام هو الأكثر قدرة على إزعاج الدولة. وكانت خيام المعتصمين ولافتاتهم تشير إلى تنوع لم يظهر للأسف في الخطاب المتولد فيما بعد. غياب خطاب يتناول المشاركين الفرديين (غير المنظمين- الذين مثلوا قلب الاعتصام) حيث أن غالبية أبناء الأقاليم ظلوا في الميدان سواء لإيمانهم بالقضية أو لتوقف القطارات أو لغياب مأوى أرخص. كان غالبية "ائتلاف شباب الثورة" يغادر إلى البيت ينام ويأخذ قسطاً من الراحة ثم يعود في الصباح ليلقي بياناً باسم الثورة. كما أن كون أكبر المسيرات خرجت من المناطق المختلطة فمثلاً مظاهرات الهرم – فيصل بالإضافة إلى مظاهرات بولاق الدكرور وهي مناطق تخوم محاطة بقرى الجيزة ناهيك عن أن نقطة انطلاق البرادعي كانت من الجيزة ويقع مسجد الاستقامة على بعد كيلومترات قليلة من مساحات زراعية وجزر قروية مر من أمامها المتظاهرون. هذه المناطق الحضرية المريفة أو الأكثر تريفاً كانت في قلب الحدث.
الهدف من فتح النقاش حول المفاهيم الإجرائية والوقائع الميدانية المتعلقة بمشاركة الصعيد في الثورة هو توضيح وجود عوالم أخرى تتحرك بطريقة مختلفة وفي أزمنه مختلفة وبمجالات مختلفة من أجل تغيير الواقع المحلي وإنتاج التغيير لا تتطابق بالضرورة مع الحراك الحضري ولا توقيته أو إشارة الانطلاق الصادرة منه. الخروج من العاصمة المسيطرة ليس فقط عبر الخروج الجسدي لكن عبر الخروج من الأفكار والتصورات والمعاني والمفاهيم التي يصوغها المركز ويعتمدها كأطر ومحددات لقراءة "الثورة". هذه الأطر يمكن اعتبارها عنفاً رمزياً يمارسه المركز "الثوري" يضاف إلى العنف الرسمي الذي يمارسه المركز "المضاد للثورة".
المراجع
. عصام الخفاجي، ولادات متعسّرة: العبور إلى الحداثة في أوربا والمشرق، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2013.
. حنة ارندت، ترجمه إلى العربية عطا عبدالوهاب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2008 .